سورة الأحقاف - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} أي يعذبون بها من قولهم: عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به وهو مجاز شائع، وذهب غير واحد إلى أنه من باب القلب المعنوي والمعنى يوم تعرض النار على الذين كفروا نحو عرضت الناقة على الحوض فإن معناه أيضًا كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك ليميل به إلى المعروض أو يرغب عنه لكن لما كان المناسب هو أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه ويحرك نحو وههنا الأمر بالعكس لأن الحوض لم يؤت به وكذا النار قلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار، وفي الانتصاف أن كل قولهم: عرضت الناقة على الحوض مقلوبًا فليس قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} كذلك لأن الملجىء ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الحوض حقيقة، وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذٍ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره كقولك: عرضت الأسرى على الأمير، ورا يقال: لا مانع من تنزيلها منزلة المدرك إن لم تكن حينئذٍ مدركة وكذا تنزيل الحوض منزلته حتى كأنه يستعرض الناقة كما قال أبو العلاء المعري:
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت *** عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
وبعد ذلك قد لا يحتاج إلى اعتبار القلب، وقال أبو حيان: لا ينبغي حمل القرآن على القرآن إذ الصحيح فيه أنه مما يضطر إليه في الشعر، وإذا كان المعنى صحيحًا واضحًا بدونه فأي ضرورة تدعو إليه؟ والمثال المذكور لا قلب فيه أيضًا، فإن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وابن السكيت في كتاب التوسعة ذهب إلى أن عرضت الحوض على الناقة مقلوب والأصل إنما هو عرضت الناقة على الحوض وهو مخالف للمشهور. وأنت تعلم مما ذكرنا أولًا أن سبب اعتبارهم القلب في المثال كون المناسب في العرض أن يؤتي بالمعروض عند المعروض عليه وأن الأمر في عرضت الحوض على الناقة بالعكس، وتفصيل الكلام في ذلك على وجه يعرف منه منشأ الخلاف أن العرض مطلقًا لا يقتضي ذلك وإنما المقتضى له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض، ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعروض يتحرك إلى المعروض عليه قال إنه الأصل، ومن لم ينظر إلى الاعتبارين وقال العرض إظهار شيء لشيء قال إن كلًا من القولين على الأصل، وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا الاعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس.
والظرف منصوب بقول محذوف مقوله قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم} إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم {فِى حياتكم الدنيا} باستيفائها {واستمتعتم بِهَا} فلم يبق لكل بعد شيء منها، وهو عطف تفسير لأذهبتم، وقرأ قتادة. ومجاهد. وابن وثاب. وأبو جعفر. والحسن. والأعرج. وابن كثير {أَذْهَبْتُمْ} بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام. وابن كثير في رواية، وعن هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف، والاستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهامًا محضًا لم تدخل الفاء في قوله سبحانه: {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي الهوان وكذلك قرئ {ا كُنتُمْ} في الدنيا {تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق} بغير استحقاق لذلك، وقد مر بيان سر {فِى الارض} {وَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي تخرجون من طاعة الله عز وجل أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين، وفي البحر أريد بالاستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب، وقرئ {تَفْسُقُونَ} بكسر السين وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف، أخرج سعيد بن منصور. وعبد بن حميد. وابن المنذر. والحاكم. والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أن عمر رضي الله تعالى عنه في يد جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه درهمًا فقال ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحمًا قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئًا اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم حياتكم الدنيا واستمتعتم بِهَا}.
وأخرج ابن المبارك. وابن سعد. وأحمد في الزهد. وعبد بن حميد. وأبو نعيم في الحلية عن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري فكان له في كل يوم خبز يلت فرا وافقناه مأدومًا بزيت ورا وافقناه مأدومًا بسمن ورا وافقناه مأدومًا بلبن ورا وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها ورا وافقنا اللحم الغريض أي الطري وهو قليل قال وقال لنا عمر رضي الله تعالى عنه: إني والله ما أجهل عن كراكر واسنمة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قومًا بأمر فعلوه فقال عز وجل: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا واستمتعتم بِهَا}، والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسنمة جمع سنام معروف والصلاء بالكسر والمد الشواء، والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضًا، وقيل: هي الحملان المشوية، وقيل: اللحم المشوي المنضج وأنشدوا لجرير:
يكلفني معيشة آل زيد *** ومن لي بالصلائق والصناب
وأخرج أحمد. والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهده من أهله بفاطمة وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله تعالى عنها فقدم من غزاة له فأتاها فإذا سح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضلة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما فقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» والمسح بكسر فسكون ثوب من عشر غليظ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو إطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز.
قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك معروفة بين الأمة. وفي البحر بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب، هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالًا وأشد قوة وأعظم جاهًا منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:


{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)}
{واذكر} لكفار مكة {أَخَا عَادٍ} هودًا عليه السلام {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ} بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم {بالاحقاف} جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها السحر من بلاد اليمن قاله ابن زيد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عمان ومهرة، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام، وقال ابن إسحاق: مساكنهم من عمان إلى حضرموت؛ وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت ارم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إرم وبيان الحق فيها.
{وَقَدْ خَلَتِ النذر} أي الرسل كما هو المشهور، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير عنى منذر.
وجوز كون {النذر} جمع نذير عنى الإنذار فيكون مصدرًا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به. وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} أي من قبله عليه السلام {وَمِنْ خَلْفِهِ} أي من بعده وقرئ به ولولا ذلك لجاز العكس، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه. وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه، فمعنى {مِنْ خَلْفِهِ} من بعد إنذاره، وعطف {مِنْ خَلْفِهِ} أي من بعده على ما قبله إما من باب:
علفتها تبنًا وماءً باردًا ***
وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه؛ وقيل إنه مشاكلة، وقيل: إنه من قبيل الاستعارة بالكناية، وإما لإدخال الآتي في سلك الماضي قطعًا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجوز أن يقال: المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين، والجملة إما حال من فاعل {أُنذِرَ} أي إذ أنذر معلمًا إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بإعلامه إياهم، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا} [البقرة: 28] الآية، ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل، وهي حال أيضًا على تفسير ابن عباس، وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله، وإما اعتراض بين المفسر أعني {جَوَابَ قَوْمِهِ} وبين المفسر أعني قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل: واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيهًا على أنه إنذار ثابت قديمًا وحديثًا اتفقت عليه الرسل عليهم السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى: {واذكر} ويؤكد قوله سبحانه: {أَنذَرَ قَوْمَهُ} ولذلك توسط، وهو أيضًا مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالًا فإنه حينئذ قيد تابع، وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في الكشف، وجوز بعضهم العطف على {أُنذِرَ} أي واعلمهم بذلك وهو كما ترى، وجعلت {ءانٍ} مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر، وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف جر مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله.
{إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} صفة {يَوْمٍ} وعظمه مجاز عن كونه مهولًا لأنه لازم له، وكون اليوم مهولًا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم.


{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بما تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)}
صفة {يَوْمٍ} وعظمه مجاز عن كونه مهولًا لأنه لازم له، وكون اليوم مهولًا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم {قَالُواْ أَجِئْتَنَا} استفهام توبيخي {لِتَأْفِكَنَا} أي لتصرفنا كما قال الضحاك من الإفك عنى الصرف، وقيل: أي لتويلنا بالإفك وهو الكذب {عَنْ ءالِهَتِنَا} أي عن عبادتها {فَأْتِنَا بما تَعِدُنَا} من معاجلة العذاب على الشرك في الدنيا {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدك بنزوله بنا.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10